صفقة تطهير الذاكرة
فهمـي هـويـــدي
(1)
عملية إطلاق سراح الأسري لدي إسرائيل شهادة أعادتنا إلي زمن البراءة والكبرياء, وذكرتنا بما نستطيع أن نفعله. بقدر ما أن المطالبة باعتقال الرئيس السوداني شهادة ردتنا إلي زمن الانكسار, ونبهتنا إلي ما يمكن أن يفعل بنا.
لا أعرف أي قدر من الدهشة يمكن أن يعتري شباب جيل هذا الزمان حين يطالعون قصص بطولات العائدين, ويتعرفون علي هوياتهم. أحدهم كان سمير القنطار اللبناني الدرزي الذي انخرط في جبهة التحرير قبل ثلاثين عاما, وبدأ نضاله وهو في سن السادسة عشرة, إذ نجح مع ثلاثة آخرين في الدخول إلي إسرائيل عن طريق البحر في عام1979, واستطاعوا الوصول إلي مستوطنة نهاريا, وكان هدف خطتهم هو اختطاف رهائن من الجيش الإسرائيلي لمبادلتهم بالأسري العرب, فاشتبكوا مع سيارة للشرطة وقتلوا اثنين من جنودها, ثم اقتحموا منزلا واختطفوا رجلا وابنته ليحتموا بهما في تقدمهم,
لكن الشرطة لاحقتهم وأمطرتهم بوابل من النيران فقتلوا اثنين من الفدائيين, واضطر القنطار إلي قتل الرجل وابنته, وفي هذه العملية التي صدمت الإسرائيليين ألقي القبض علي القنطار, وقرروا الانتقام منه, فصلبوه وعذبوه, وأصدروا ضده أحكاما بالسجن لمدة542 عاما, ورفضوا أي حديث عن مبادلته تحت أي ظرف, حتي اعتبر إطلاق سراحه خطا أحمر, وتداول السياسيون والإعلاميون منذ ذلك الوقت عبارة تقول: إن إسرائيل لن تلد المسئول الذي سيفرج عنه.
في أحد التوابيت التي تمت مبادلتها رقد رفات دلال المغربي, الفلسطينية ابنة العشرين عاما, التي خرجت من أحد المخيمات المقامة في لبنان, واختارتها حركة فتح لتكون في قيادة مجموعة ضمت13 شخصا كلفت في عام1978, قبل شهر من عملية سمير القنطار, بتنفيذ عملية جريئة, استهدفت الاستيلاء علي مقر الكنيست في تل أبيب, واحتجاز من فيه رهائن لمبادلتهم بالأسري العرب. من البحر جاءوا في قوارب مطاطية أنزلتهم علي شاطئ يافا القريبة من تل أبيب, ووصلوا قبل طلوع الشمس إلي الطريق العام,
حيث نجحوا في إيقاف حافلة ضمت30 إسرائيليا وأجبروا قائدها علي التوجه إلي تل أبيب, وفي الطريق صادفتهم حافلة أخري فأوقفوها وأنزلوا ركابها وضموهم إلي الرهائن المذهولين الذين معهم, أبلغت دلال المغربي الجميع بأنهم لا يريدون قتل أحد منهم, لكنهم يريدون مبادلتهم مع زملائهم الذين تحتجزهم الحكومة الإسرائيلية, وأخرجت من حقيبتها علم فلسطين وقبلته, وعلقته في مقدمة الحافلة. لاحقتهم قوات الجيش ووضعت الحواجز في طريقهم, لكنهم نجحوا في اجتيازها, وإلي أن واجهتهم المدرعات الإسرائيلية التي قصفت السيارة وأمطرت عجلاتها بالرصاص, ودارت معركة عنيفة أسفرت عن مقتل30 إسرائيليا وجرح30 آخرين, أما المجموعة الفدائية فقد قتل جميع أفرادها بمن فيهم دلال, باستثناء اثنين أحدهما هرب, والثاني سقط جريحا.
(2)
كل قادم من إسرائيل في عملية التبادل, سواء كان حيا أو في تابوت خشبي, وراءه قصة أقرب إلي الأسطورة, ولم تكن الوقائع وحدها المدهشة في ذلك الزمن, الذي يبدو الآن سحيقا وموغلا في القدم, وإنما كان المناخ مدهشا بدوره, فقد كانت المقاومة قيمة عليا توافق عليها العالم العربي بأنظمته وشعوبه( لا تنس أن أحد قادة السلطة الفلسطينية وصف قبل عامين عملية فدائية في إسرائيل بأنها محاولة حقيرة!), وكان المقاومون أبطالا يشار إليهم بالبنان, والانخراط في صفهم أمل يهفو إليه الشباب العربي في كل مكان. أيضا كان العدو واضحا, ولا مكان للاختلاف حوله, وفي مواجهته كان الإجماع منعقدا علي مستوي القطر والأمة, وبطبيعة الحال فإن الصف الفلسطيني كان واحدا برغم تعدد فصائله.
مجموعة سمير القنطار الدرزي اللبناني لم تذكر الهوية الدينية أو القطرية لأي منهم, أما مجموعة دلال المغربي فقد ضمت فلسطينيين ولبنانيين واثنين من اليمنيين, وجميعهم كانوا دون العشرين من العمر.
لم يتم حتي كتابة هذه السطور التحقق من أصحاب الرفات الذي تم تسلمه من الإسرائيليين( أكثر من190 جثة عربية سلمت), لكن الثابت أن القائمة التي قدمها حزب الله إلي الإسرائيليين تضمنت أسماء شهداء يمثلون كل ألوان الطيف اللبناني, الشيعة, والسنة, والأكراد, والدروز, وأعضاء سابقين في جبهة التحرير الفلسطينية وغيرها من الفصائل الفلسطينية, والحزب الشيوعي القومي السوري.
لم يكن المناخ العربي وحده المواتي لمساندة المقاومة والتعويل عليها, وإنما كان الظرف الدولي عنصرا مساعدا علي تبني ذلك الموقف. كان الاتحاد السوفيتي سندا قويا للأمة العربية في مواجهتها مع إسرائيل, فضلا عن أن العرب كان لهم أصدقاؤهم الذين ساندوهم, وأخص بالذكر هنا الصين والهند وبقية دول عدم الانحياز.
مشهد تبادل الأسري عند رأس الناقورة في لبنان يعيد إلي أذهاننا كل ذلك الشريط, علي نحو يحيي في ذاكرة الأمة صفحات من تاريخها القريب, بعضها كاد يطويه النسيان, وبعضها تعرض للمسخ والتشويه, فضلا عن ذلك فإنه يثير أسئلة عدة تتعلق بتفسير الموقف الإسرائيلي الذي ذهب إلي حد تجاوز خطوطه الحمراء.
(3)
الصدمة كانت عنوانا لتعليقات النخبة الإسرائيلية علي صفقة الرضوان التي حملت الاسم الحركي للشهيد عماد مغنية( الحاج رضوان), القائد العسكري الأبرز في حزب الله, الذي رتب عملية خطف الجنديين الإسرائيليين في عام2006, وبسببها شنت إسرائيل عدوانها علي لبنان في صيف ذلك العام, إذ وصفها أحدهم بأنها الصفقة البشعة( عوفر شيلح في معاريف7/18), وقال آخر: إن يوم تبادل الأسري هو يوم أسود في تاريخ إسرائيل يجعل المرء يخجل من انتمائه إلي البلد( نعومي راجن في يديعوت أحرونوت7/17), أما الكتابات والتصريحات التي تحدثت عن فقدان إسرائيل لقدرتها علي الردع, وهزيمتها أمام حزب الله في حرب2006,
التي فشلت في تحقيق هدفيها( القضاء علي حزب الله, واستعادة الجنديين الأسيرين) فهي بلا حصر.
يهمنا في التعليقات الإسرائيلية تواتر الإشارة إلي أن صفقة التبادل لا ترفع من أسهم حزب الله فقط, وإنما من شأنها أن تقوي ساعد المقاومة في العالم العربي, وتعيد إلي الأذهان أساليبها ومقدراتها, الأمر الذي لا يسبب إزعاجا لإسرائيل فقط, وقد يدفع حركة حماس إلي التشدد في شروط إطلاق الجندي الإسرائيلي الأسير لديها جلعاد شاليط, ولكنه أيضا يسبب إحراجا للدول المعتدلة في المنطقة, التي تصالحت مع إسرائيل, وانحازت إلي السلام كخيار استراتيجي لها( إسرائيل لم تعلن ذلك), وفي الوقت نفسه فإن الصفقة تسبب إحراجا للسلطة الفلسطينية في رام الله التي أدانت المقاومة ولم تحقق شيئا علي صعيد إطلاق أسير واحد من الأحد عشر ألف أسير فلسطيني في السجون الإسرائيلية.
الذين دافعوا عن الصفقة قالوا إنها تعزز مكانة إسرائيل الأخلاقية والقيمية, وتبرهن علي أن إسرائيل مستعدة لأن تبذل أي شيء آخر من أجل استعادة أبنائها, حتي الأموات منهم, وهذا ما قالته ميري ايزن المستشارة الإعلامية لرئيس الوزراء( كأن الاحتلال وتجويع الفلسطينيين وإبادتهم بالتدريج لا يخدش مكانة إسرائيل الأخلاقية).
صحيح أن التقاليد والتعاليم الدينية تدفع إسرائيل إلي الإلحاح علي استعادة رفاة جنودها, لكن ذهابها في ذلك إلي حد تجاوز ما اعتبرته خطا أحمر بالإفراج عن سمير القنطار, وإعادة رفات دلال المغربي, يعطي انطباعا قويا بأن الأمر أكبر من تلك التقاليد والتعاليم, وفي التحليلات والتعليقات المنشورة إشارة إلي أن إسرائيل أدركت أن وجود أولئك الأسري لديها يكلفها الكثير, والضرر فيه أكبر من النفع, خصوصا أن استمرار احتجازهم يغري المقاومة بمحاولة اختطاف جنود إسرائيليين جدد, الأمر الذي يعقد الأزمة ويفاقمها.
بالتوازي مع ذلك فهناك عوامل أخري يتعذر تجاهلها, منها مثلا أن إسرائيل تريد أن تنهي القضايا المعلقة مع لبنان, بما فيها احتلال مزارع شبعا, لكي تفسح المجال للمطالبة بتجريد حزب الله من السلاح, باعتبار أن وجود تلك القضايا المعلقة هو الذي يبرر تمسك حزب الله بسلاحه, وبإغلاق ملفات القضايا العالقة يسقط ذلك المبرر, علما بأن تجريد الحزب من سلاحه ليس فقط مطلبا إسرائيليا يستهدف إفقاده لعنصر قوته, ويعد تمهيدا مطلوبا قبل القيام بعمل عسكري ضد إيران, لكنه أيضا مطلب أمريكي تبناه مجلس الأمن وأصدر به القرار رقم1559 الذي صدر عام2004, الذي لم يأبه به الحزب.
علي صعيد آخر فإننا لا نستطيع أن نعزل الصفقة عن أجواء التهدئة التي تطلق إشارتها في المنطقة العربية( من غزة إلي مباحثات سوريا وإسرائيل وتركيا), وهذه التهدئة تلتقي عندها مصالح أطراف عدة, فإسرائيل تريدها لتتفرغ للتعامل مع الملف الإيراني, والإدارة الأمريكية تتطلع إليها لكي تضمها إلي رصيد الجمهوريين الخاوي في انتخابات الرئاسة في نوفمبر المقبل, ذلك أن الحماس للتصويت للمرشح الجمهوري جون ماكين السائر علي درب بوش, قد يتراجع إذا وجد الأمريكيون أن ذلك سيؤدي إلي استمرار الحرائق في المنطقة التي تسببت فيها سياسات الأخير.
(4)
صفقة الرضوان التي تمت في السادس عشر من يوليو الحالي بدت وكأنها ومضة عابرة في الفضاء العربي المعتم, الذي يخيم عليه شعور قوي باليأس, ويعاني الانقسام والفرقة, بما استصحبه ذلك من شعور بالضعف, وانقلاب منظومة القيم السائدة, والافتقاد إلي الإجماع العربي حول مختلف قضايا المصير, وعلي رأسها قضيتا فلسطين, واستقلال القرار الوطني.
إن شئت فقل إن الصفقة أعادت إلي الذاكرة واحدة من لحظات العزة في زمن الاستضعاف العربي, الذي سوغ للأمريكيين احتلال العراق, وإعدام رئيسه, ثم التحريض علي اعتقال الرئيس السوداني, ومباركة كل الجرائم الإسرائيلية والدفاع عنها.
إن حزب الله بلحظة العزة التي استعادها لم يخترع العجلة, لكنه فعل ما ينبغي أن تفعله أي حركة للتحرر الوطني, تستمد شرعيتها من إيمانها بعدالة قضيتها وتفانيها في الدفاع عنها, ومخاطبة العدو باللغة التي يفهمها, وإذا أضفنا إلي ذلك الثقة في النفس وفي الله, فإن كل ما يبدو مستحيلا يصبح ممكنا.
إن الدرس الكبير الذي ينبغي أن نتعلمه من الصفقة أن أعداءنا ليسوا بالقوة التي يصورونها لنا, وأننا لسنا ضعفاء بالقدر الذي نتوهمه.